في عالم يعج بالشعارات الدينية، والدعوات المتكررة إلى اعتناق هذا المعتقد أو ذاك، يتبادر إلى الذهن سؤال بسيط لكنه عميق:
لماذا يحتاج من يؤمن بدينٍ ما إلى الترويج له؟ ولماذا نجد هذا السلوك أكثر وضوحًا في ديانات ومجتمعات معينة دون غيرها؟
هل المسألة تتعلق بحب الخير للناس؟ أم أن خلف هذا الترويج قلقًا داخليًا، يحتاج إلى تطمين خارجي؟ وهل الإيمان القوي يحتاج إلى لافتة؟ أم أن الإيمان حين يكون صادقًا، يكون كالماء العذب: لا يحتاج إلى دعاية كي يُروى؟
المعتقد الذي يحتاج إلى ترويج، هو معتقد مرتبك، فعندما ترى من يوزع القرآن في الشوارع، أو من تمسك بحجاب وتبدأ في دعوة الأخريات إليه بإلحاح في الشوارع بعية تجريبه، أو من يكرر على مسامعك أنه “من أهل التقوى” .
اسأل نفسك: لماذا؟
هل لأن هذا الشخص مرتاح جدًا بما يؤمن به؟ أم لأنه يحتاج إلى من يشبهه كي يشعر بالاطمئنان؟
في كثير من الحالات، لا يكون الدافع هو “حب الخير للناس” كما يُقال، بل حاجة نفسية خفية: أنا أحتاج إلى أن تكون أنت مثلي، لأنني غير واثق تمامًا مما أنا عليه، وأحتاج إلى التكرار والانتشار كي أشعر بالطمأنينة، أو لا أرفض الاختلاف لأنني أرى أني أمتلك الحقيقة المطلقة "بعد أن ورثتها" .
الإيمان الحقيقي لا يصرخ.
المعتقد الواثق لا يستجدي.
والقناعة الناضجة لا تحتاج إلى جمهور لتثبت وجودها.
لماذا لا نرى هذا في كل الأديان والملل والمعتقدات؟
من المثير أن تلاحظ أن كثيرًا من أتباع المعتقدات الأخرى، كالبوذية، لا ينخرطون في حملات “دعوية” أو لا يفرضون مظاهر معينة على الآخرين. ليس لأنهم لا يؤمنون بها، بل لأنهم يعتبرون أن الإيمان مسألة داخلية، وأنه لا يليق بالروح أن تُعلَّب وتُسوّق كمنتج استهلاكي.
في المقابل، ترى في بعض البيئات الإسلامية "وخاصة التقليدية" ميلاً شديدًا نحو الدعوة والمزايدة:
فلانة غير محجبة؟ إذًا هي ضالة.
فلان لا يصلي مثلي؟ إذًا هو أقل إيمانًا.
أنت لا “تنشر” الدين ولا تدعو له؟ إذًا إيمانك ناقص.
وتبدأ حلقة المزايدة بالتقوى، والتي هي في حقيقتها، نوع من القلق المقنّع الذي يبحث عن شرعية في عيون الآخرين. الحجاب مثالًا: بين القناعة والفرض الإجتماعي.
حين تروّج بعض النساء للحجاب بين أخريات غير محجبات، وتلاحقهن بكلمات “النصح” فهي لا تعبّر دائمًا عن محبة، بل ربما عن رغبة لا واعية في شرعنة قناعاتها أمام نفسها، وفرض هذه القناعة على الأخريات.
بينما الإنسان الواثق بخياره، لا يُزعجه اختلاف الآخرين. بل يزداد هدوءًا حين يراهم مختلفين، لأنه لا يحتاجهم مرآة لتثبيت ذاته.
الدعوة الصادقة تنبع من محبة الإنسان للخير، دون ضغط، دون مزايدة، ودون فرض.
أما الترويج، فهو غالبًا محاولة يائسة لجعل الآخرين يدعمون إيمانًا لم ينضج بعد داخليًا.
الفرق واضح:
الأول: هادئ، صادق، متزن.
الثاني: صاخب، مهووس بالإقناع، لا يرتاح حتى يُقنع الجميع، وغالبًا لا ينجح.
ليس المطلوب أن نخجل مما نؤمن به، لكن علينا أن نميز بين: مشاركة المعتقد عن طمأنينة، وبين نشره عن قلق فكلما زاد صراخ الإيمان، قلّ صدقه.
كلما احتاج أحدهم إلى “جيش من المتشابهين” كي يطمئن إلى دينه، فليعلم أن إيمانه هشّ، مهما كان مظهره قويًا.